حرّاس المياه

Date: 13 October 2020

الجفاف والتغير المناخي في العراق

يسألني أصدقاء وصديقات، زميلات وزملاء كثر عن سبب اهتمامي بالمياه وسط كل هذه الحروب والكوارث الإنسانية التي تحيطنا من كل الجهات. وكنت أجيب على هذا السؤال شفهياً في أغلب الأوقات، رغم ان حكايتي مع المياه، وهي في الحقيقة حكاية أكثر من مليار انسان يتأقلم مع العطش اليوم، لها صلة مباشرة بالطبيعة البشرية فيما خص العلاقة بين الإنسان وبيئته وسبل تنظيمها، أي انها جزء من تلك الحلول التي نبحث عنها اليوم لتفادي العطش والجوع. الحكاية ببساطة شديدة، هي علاقة رجل كُردي بشجرة توت داخل بيته الصغير بعدما تزوج واستقل عن بيت الأبوين الكبير؛ وهي بشكل آخر علاقة تستمد حلولها من الطبيعة ومواردها، استثمر فيها القرويون قبل ان يجعلها الاقتصاديون والخبراء والأكاديميون عنواناً لتنظير جديد تحت عنوان (الحلول القائمة على الطبيعة).

فتحت عيني في البيت الصغير ذاك، ورأيت فيه شجرة توت جاء بها والدي كما كان يروي لنا، من قرية أخرى وزرعها في البيت الجديد، وحفر إلى جانبها بئراً لم نشرب منه قط، كما لم تشرب منه الشجرة؛ لأن الماء لم ينبع منه وتم ردمه حين كبرنا وكبرت معنا التوتة. كانت تقع قريتنا في منطقة (كرميان)، أي المناطق الحارة، وهي من المناطق السهلية الجافة في كُردستان العراق، ولا يعزّي عزلتها وعطشها سوى نهر (آوَسبي) الذي يتحول في تخوم قضاء طوز خورماتو جنوب مدينة كركوك إلى ساقية في تربة مالحة.

في تلك القرية المعزولة عن العالم، والتي تم تدميرها بالكامل إبان عمليات الإبادة الجماعية (الأنفال) ضد الكُرد من قبل جيش صدام حسين عام 1988، لم يعلمنا أحد كيف نوازن بين احتياجنا للمياه وبين مصادرها النادرة في تلك القرية الصغيرة. كانت إدارة المياه تتم من خلال علاقة عضوية وحسية بين السكان وتلك الطبيعة الجافة التي اختارها أجدادنا للعيش. وكان لكل عائلة بئر، كما أصبح مألوفاً ان تزرع شجرة توت وبعض القصب إلى جانبه، ذاك ان شجرة التوت لا تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه للسقي، فيما كانت تسعدنا نحن الأطفال بتوت أبيض حلو في الصيف. كانت العلاقة بين المياه الجوفية التي كنا نحصل عليها بعد عناء طويل وبين ظمئنا، تستوجب مثل هذه المعرفة بالأشجار واحتياجها للمياه.

صبي عراقي يمشي على ضفة نهر الفرات خلال فترة غروب الشمس. الصورة لـ أليكس كاي بوتر

لم ينعم بئرنا في ذلك البيت بالصغير بالماء، إنما كبرت التوتة واجتاز طولها وأغصانها جدران الحوش، أو أرض الدار التي كبرت أيضاً ولم تبق صغيرة. اعتاد والدي ان يسقي الشجرة بكميات الماء الذي كان يتوضأ به مرات في كل يوم. لم أره يوماً يهدر الماء المستخدم للوضوء، وكان يقوم تالياً بإعادة تدويره ويسقي به شجرتنا الجميلة التي كانت تستقطب أعدادا كثيرة من العصافير وتحول بيتنا الى حاضنة مناسبة لها. وعلى خطاه، تعلمنا نحن أطفاله ان نحافظ على الماء، نقوم بإعادة تدويره للسقي أو استخدامات أخرى غير الشرب واحضار الطعام والتنظيف. وكان أهل القرية يعيدون استخدام المياه المتبقية في الجداول المخصصة للمواشي لسقي حدائق صغيرة كانت تشبه واحات خضراء في قريتنا خلال فصل الصيف.

حرّاس المياه والمدافعين عنها

كنا، بشكل عام حرّاس المياه والمدافعين عن وجودها وحقوقها، ولم تقبل علاقتنا الحسية معها، التلوث، الاختناق والهدر. ففي نهر آوَسبي شمال القرية بنحو ساعة من السير على الأقدام، كنا نشرب و نسبح ونصيد السمك دون خوف وتردد، ذاك ان مياه النهر كانت نقية وعذبة، ولم تشر خصائصها الثلاث (الشرب والسباحة و الصيد) سوى الى استمرار وجودنا وبقائنا، لذا كنا نحميه ونصون حقوقه من دون نظريات حقوقية. هناك مثلاً في نيوزلندا لائحة حقوق الأنهار صدرت عام 2017، انما لم نفكر نحن يوماً بأننا نحتاج لقانون أو لائحة من الالتزامات كي يبقى نهرنا بصحة جيدة، بل اعتبرناه جزءا منا. كان يستحيل ان نرمي شيئاً بالقرب من مصار شربنا: النهر، السقايات، الآبار، أو في العيون القليلة التي كانت ترطب ريقنا وريق الطيور والحيوانات البرّية.

هي علاقة رجل كُردي بشجرة توت داخل بيته الصغير بعدما تزوج واستقل عن بيت الأبوين الكبير

اختصاراً، كانت علاقتنا بالماء تتصف بنوع من الشراكة الحسية قبل الشرب والارتواء؛ وكنا نكتشف العلاقة ذاتها من خلال أشياء أخرى، الخضار والفاكهة. كنا نجعل الفجل أو البصل حاد المذاق، ان أردنا ذلك بطبيعة الحال، وذلك بقطع المياه عنهما في المرحلة الأخيرة من النضج، بينما كنا نزيدهما السقي ان أردناهما حلوين. كان أتباع زراعة الفاكهة الصيفية التي لا تحتاج سوى إلى أمطار الربيع الأخيرة، خيار الدَيم والشمام مثلا، أسلوب آخر من أساليب ترطيب “أرض اليباب”* وإبقاء مياه خضراء في صيفها الحارّ، ذاك ان الشتلات المزروعة في (بُستان الدَيم) كما يسمى بالكُردية، بإمكانها تخزين مطر الربيع لشهور وإعطاء الثمار في الصيف.  

تالياً، كانت إدارتنا للمياه وسبل الاستفادة منها قطرة بقطرة، مبنية على علاقتنا العضوية بالطبيعة التي تدور في نظام ايكولوجي لا يخطئ في جعل تناغم عناصره مصدر الدوران والتجديد. بيوتنا الطينية بمنافذها الصغيرة، اعتمادنا على الحبوب والخضار والفاكهة التي تعتمد بالدرجة الأساس على الأمطار الموسمية، استخدامنا للمياه الجوفية المتوفرة في حدود الممكن، تدوير مياه الصرف في صناعة السماد الطبيعي، والمياه المتبقية من الجداول المخصصة للمواشي والحيوانات من أجل الزراعة المنزلية المحدودة، أو للبناء والتصليح، كل هذه الأشياء كانت تُصبغ على حياتنا التناغم والاستمرار. وكنا تالياً، حرّاس المياه بالفطرة.

صبي عراقي يسبح في نهر الفرات في منطقة الفلّوجة، عام 2017. الصورة لـ أليكس كاي بوتر

ولم تبق هذه الفطرة في خارطة الوعي بحراسة الماء النقي الصالح للشرب، بل كانت جزءاً من تفاصيل أخرى في تخوم المياه المتخيلة (المفترضة) والمياه الميتة، أو تلك المصادر الملوثة التي من شأنها الوصول الى مياهنا في جوف الأرض. كانت تقوم كل عائلة بجمع المخلفات البشرية والحيوانية والرماد المتبقي من حرق الروث والخشب ووضعها في مكان خاص قريب من البيت. وبعد مرور عام، تتحول تلك المواد الى سماد طبيعي يستخدم في الزراعة الصيفية على نهرنا الوحيد (آوَسبي)، وكنا تالياً نحمي مصادر مياه القرية من التلوث وذلك من خلال تحويل المخلفات الى السماد وعدم الاعتماد على الأسمدة الصناعية التي كان من شأنها تلويث النهر.

لقد كانت حراستنا للمياه تأقلماً عفوياً وعضوياً مع بيئتنا دون إلحاق الضرر بالطبيعة التي كنا نأخذ منها ونعطيها في آن واحد. نحبس أمطار الربيع في بساتين الدَيم لنتنعم بفواكه صيفية تحمل معها مياه خضراء، بينما يتم اليوم إهدار المياه الجوفية لإرواء البساتين وإنتاج الفواكه ذاتها. والسؤال هنا، هل فقدنا حكمة التعامل مع الطبيعة، وهل يمكن استعادة تلك العلاقة الفطرية التي اكتسبها الإنسان من الطبيعة ذاتها؟ أحاول من خلال صفحات هذا الكتاب الإجابة على هذا السؤال الذي يعد سؤالاً كونياً اليوم، انما يحتاجه العراق أكثر من غيره، ذاك انه من بين البلدان الأكثر عرضة  لآثار التغير المناخي المتمثلة بالجفاف والفيضانات والتصحر ..الخ. وتعتمد فصول الكتاب بالدرجة الأولى على أسلوب الرواية الصحفية الدارج والهادف الى توفير المعلومة أو القصة التي تُمكّن القارئ من فهم مُراد الكتاب وهو النتائج المترتبة عن التغير المناخي اجتماعياً وتربوياً وثقافياً.

“أخبرني ماذا حدث، ومن ثم تدلي برأيك”. انه المبدأ الذي اكتسبته من عملي الصحفي وأصبح المنهج المتبع في بحثي الميداني لإنجاز هذا الكتاب. ومن أجل هذا المبدأ أقف بالقرب من كل شخصية لأتناول قصتها مع الحر القائظ، شح المياه، السيول والفيضانات. واكتشفت من خلال بحثي عن القصص حول المياه والجفاف في العراق، بأن والدي لم يكن حارس الماء الوحيد، فهناك حرّاس آخرون يحمون المياه الى اليوم من شرّ الهدر والتبذير ويُقطّرون يوميات حياتهم من أجل الحصول على الجوهرة الزرقاء. امرأة جنوبية تروي لي قصة حمايتها للمياه من خلال الري بالتنقيط، وأخرى تروي لغيري كيف انها تقطع ما يقارب ١٥ كيلومتر يومياً للحصول على المياه؛ انهن حارسات المياه أيضاً. وفي العراق، لا يمكن الكتابة عن مصادر المياه، العلوية منها والسفلية كما كانت تسمى في قصة الطوفان الأولى لدى السومريين، دون التوقف على شاطئ الآداب والفنون والملاحم الأسطورية التي ما إن رست ترسو على الماء، تأخذ من لغته وايقاع حركته ولونه ورائحته، ناهيك عن حضوره حتى في الشرائع العراقية القديمة؛ شريعة حمورابي نموذجاً.

لا ضفاف للعلاقة بين المخيلة العراقية والمياه. ولا يمكن ان نفهم الفنان ناظم الغزالي حين يقول، “غابت شمسنا والحلو ما جانا” دون التوقف في تخوم هذه العلاقة التي تتوزع مضامينها ليس على ضفاف الأنهار، بل حتى على ضفاف السواقي أو الجداول المتفرعة من الأنهر.  كما لا يمكن التفكير بأنسنة دجلة دون العودة لقصائد الجواهري أو مقاربات الروائي والقاص محمد خضير بين حركية الأنهار ولغة العراقيين، ناهيك عن تراث انساني هائل لم تمحوه آلاف السنين بعد السومريين. لكل هذه الأسباب أجدني هنا متوقفاً على ضفة الفنون والآداب من مواقف وحكايات ونصوص تغوص في المياه قبل الغوص في اللغة.

*النص أعلاه، مقدمة كتاب بالعنوان نفسه صدر عن مؤسسة المدى للثقافة والنشر

Author:
Share On